إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 30 ديسمبر 2018

هكذا تكلم المسيح 6 - هل ندخل الملكوت اطفالاً؟

رأى يسوع أطفالاً يرضعون. فقال لتلاميذه: إن هؤلاء الأطفال الرُضَّع يشبهون الذين يدخلون الملكوت.قالوا له: فهل ندخل الملكوت أطفالاً؟قال لهم يسوع: عندما تجعلون الاثنين واحداً، وعندما تجعلون الباطن كالظاهر والظاهر كالباطن، والأعلى كالأسفل، وعندما تجعلون الذكر والأنثى واحداً، حتى لا يبقى الذكر ذكراً ولا الأُنثى أُنثى، وعندما تجعلون عينين مكان عين واحدة، ويداً مكان يد، ورِجْلاً مكان رِجْل، وصورةً مكان صورة، عندئذٍ تدخلون الملكوت.



لقد اولى يسوع الاطفال مكانة مميزة في تعاليمه، فهو لم يتوقف ابداً عن القول بأن علينا ان نكون مثل الاطفال حتى ندخل ملكوت السماوات او الجنة، وكنا دائماً نتسائل عن سبب ذلك التمييز للطفل، فالبعض يقول بأنه ميز الاطفال لأنهم يرتكبون اي خطيئة بعد، والبعض قال بأنه ميزهم لبرائتهم وانهم على فطرتهم وسجيتهم، 

لكن اليس هناك ميزة في كون الشخص ليس طفلاً؟ لو اراد الله ان نكون اطفالاً فقط لما جعلنا في موضع الاختبار والتجربة، فلابد من انه يوجد شيء مميز في كون الانسان يمر بالتجارب التي بالطبع تؤثر على نظرته للعالم وللحياة ولا تجعله طفلاً، لكن لماذا يطلب منا اذاً ان نعود مثل الاطفال مرة اخرى،،

لابد ان يحمل المقصود من العودة للطفولة هنا هو عودة مختلفة، فأنت تعود طفلاً بإرادتك بعد مرورك بالخبرات والتجارب المختلفة، لكن ما علاقة الكلام الذي يقوله يسوع هنا بالعودة للطفولة؟ ما معنى ان نجعل الاثنين واحداً؟! والظاهر كالباطن، والاعلى كالأسفل؟ والذكر كالأنثى،،

قد يبدو الكلام غامضاً، كذلك يبدو دائماً كلام المسيح وغيره من المعلمين اذا حاولنا فهمه بالعقل وحده، فلابد ان نجعل القلب ايضاً رفيقا لنا في هذا الطريق، 

يتفضل المسيح: "هؤلاء الأطفال الرُضع يشبهون الذين يدخلون الملكوت"


لاحظ قوله "يشبهون" فنحن على ما يبدو لا ندخل الملكوت اطفالاً، بل هناك تشابه بين الطفولة والحالة التي تؤهلنا للدخول الى الملكوت، لأن ثمة شيء هام في تجارب الحياة والتي تميز الكبير عن الطفل الرضيع

ثم يسأله تلاميذه: هل ندخل الملكوت اطفالاً؟

هذا ولأن المعنى لم يكن قد اتضح لهم بعد، فالانسان لا يدخل الملكوت بهيئته البشرية، فلا معنى ولا فرق حينئذٍ بأي هيئة ستدخل الملكوت، 

لذلك أردف يسوع موضحاً مقصده : " عندما تجعلون الاثنين واحداً، وعندما تجعلون الباطن كالظاهر والظاهر كالباطن، والأعلى كالأسفل، وعندما تجعلون الذكر والأنثى واحداً، حتى لا يبقى الذكر ذكراً ولا الأُنثى أُنثى، وعندما تجعلون عينين مكان عين واحدة، ويداً مكان يد، ورِجْلاً مكان رِجْل، وصورةً مكان صورة، عندئذٍ تدخلون الملكوت.

هذا هو ما يميز الطفل، لكنه ما دون الوعي، فالطفل لم يعايش العالم بعد، لذلك فهو لا يفرق بين الاثنين والواحد، ولا الباطن ولا الظاهر، ولا الاعلى ولا الاسفل، لا معنى لهذه التصنيفات لديه، فهو يرى العالم كأنه وحدة واحدة، لكن بعد ان يدخل الطفل للعالم بالتدريج فإنه يقع في فخ التصنيف والتقسيم، فيفصل بين كل شيء ليتمكن من فهمه، وهي عادة من عادات العقل "ان اردت ان تفهم شيئاً ما عليك ان تجزئه" هكذا يفكر العقل، فيأخذ كل شيء ويفهمه بمعزل عن الاخر، لذلك فبالنسبة للانسان العادي لابد ان يختلف الشيء عن ضده، فثمة فروقات كبيرة بين النور والظلام، والخير والشر، والجيد والسيء، فالظلام والشر شيء سيء عليك ان تتجنبه وهو غير مرتبط بالخير الذي ترغب فيه، 


عندما استخدم كلمة "العقل" فأنا اعني فقط العقل الواعي، وهو احد مستويات العقل، ذلك الذي يفكر بالمنطق، الذي يتوقع ويحسب الامور، فهذا العقل الواعي هو الذي يقوم بالتقسيم والتجزئة، وهو الذي يكون معرفته من خلال التلقي من العالم الخارجي وربط الامور ببعضها، 

هذا العقل هو الذي يجعلنا نرى الاختلافات والفروقات بين كل شيء، لكن هل هذه هي الطريقة الوحيدة لرؤية العالم؟؟

هذه الطريقة في رؤية العالم محدودة جداً، فأنت لم تستخدم امكانياتك الكاملة للنظر للعالم، ماذا عن ابعاد العقل الاخرى التي لم نعد نعتمد عليها بعد؟

هناك مستويات عديدة من العقل :


- العقل الواعي وهو المسؤول عن التفكير الواعي كما ذكرنا

- العقل اللاواعي وهو المسؤول عن الاحلام والعاطفة والمشاعر والحس الفني والحدس وامور اخرى، وهو الجزء الخفي من النفس، ويحتوي ايضاً على كل ما تم كبته او تجاهله من العقل الواعي، 

- العقل اللاواعي الجمعي: وهو مستوى اعمق واخفى من العقل اللاواعي الفردي، حيث انه مثله ولكنه يخص البشرية جمعاء، وهو يحوي بداحله تجارب البشرية وتقاليدها ومعتقداتها، وهو نقطة الوصل بين كل فرد وبين جميع البشر، بل وجميع الكائنات الحية.

- العقل العالي: وهو مستوى اعمق واعمق من التفكير، وهو يحوي كل المعارف السابقة والقادمة للبشر، وهو المستوى الروحي، او الوعي الروحي، حيث يكون الانسان متصلاً بكل ما كان وما يكون، وهو المسؤول عن تلقي الالهام والوحي، تلقي وفهم الحقائق والاسرار الروحية دون تعلم او تلقي خارجي، ومسؤول عن القدرات الروحية، ونحو ذلك،، 

نحن عادةً نستخدم فقط المستوى الاول من الوعي لرؤية العالم والتعامل معه، وهذا ما يجعل نظرتنا ضيقة ومحدودة للغاية، وما يميز الطفل هو انه اكثر ميلاً للمستوى اللاواعي للتفكير، كما انه ايضاً يتاثر باللاوعي الجمعي، ويكون مدركاً بسبب مرونته للمستوى الاعلى من الوعي وهو العقل العالي،  لذلك تحدث يسوع عن العودة للطفولة، لكن كإنسان ناضج لم تعد طفلاً بعد، عليك ان تفهم اولاً ماهو المطلوب حتى تعود للطفولة مجدداً، وهو الاعتماد على مستويات مختلفة من الوعي حتى يتحقق دخول الملكوت، وما الملكوت الذي يدعو اليه المسيح الا حالة من حالات الوجود، الم يقل يسوع "ان الملكوت بداخلكم" ، وما الملكوت الا العيش وفقاً لأعلى مستويات الوعي الممكنة، اي العيش من خلال الوعي الروحي، 

لكن ما المشكلة في الاعتماد على المستوى الاول من العقل فقط في فهم العالم؟


ليست ثمة مشكلة في اي شيء، المشكلة الوحيدة الموجودة هي عدم الفهم، اعني فهم ما نمر به ونختبره والتأمل فيه بعمق، حتى ندرك بأنفسنا ما هو سبب شقائنا وما هو سبب خلاصنا،،

العقل الواعي هو عملية التفكير الظاهرية، وهو دائما يسعى ان يجعل الامور مفهومة وواضحة وتحت السيطرة، لذلك ايضاً هو مصدر القلق والاضطراب، فلا شيء يبقى تحت السيطرة دائماً، هناك احتمال دائماً بأنك ستخسر شيء ما في المستقبل، سيحدث لك مكروه ما، لذلك لن يختفي القلق ابداً مادمت تعتمد فقط على العقل الواعي،، والقلق في حد ذاته جحيماً يخلقه عقلك، فنحن في الحقيقة نقلق دائماً اكثر مما ينبغي، بل ان الحياة نفسها تهدر في التفكير بخصوص المستقبل بشكل مستمر، 

كما ان العقل دائماً يعدك بمستقبل افضل، ويخلق التوقعات، ثم حينما يأتي المستقبل، يذهب بك لمستقبل اخر، وهكذا، فانت لا تستطيع ابداً ان تعيش، محصلة حياتك ستكون عبارة عن مجموعة من المطامع والاحباطات واحلام اليقظة،، وان فزت بشيء حقاً وفرحت لبعض الوقت، فلابد وان يزول فرحك المؤقت وتواجه بخيبة امل جديدة، فأي نعيم يرجى من هذا؟

لذلك العيش فقط وفقاً لهذا المستوى من الوعي، لن يكون كافياً وحده ابداً، بل انه يخلق جحيماً مستمراً،، 

لكن كيف نعبر من هذا المستوى؟ 


العبور من هذه المرحلة لا يكون الا من العقل الواعي نفسه، لذلك نجد ان المسيح والمعلمين الروحيين كانوا يتكلمون بلغة العقل الواعي ايضاً، ويستخدمون كل الطرق والامثلة والتشبيهات، حتى يأخذوا بأيدينا الى ما هو ابعد من هذه المرحلة الضيقة، علينا اولاً ان نفهم اننا لا نستطيع ان نفهم كل شيء، وان المستقبل دائماً خارجا عن السيطرة والتوقعات، ونبدأ تدريجيا في الاعتماد على قوة اكبر منا وندعها تسير امورنا، تلك القوة التي تسير الكواكب والاكوان والعوالم أتعجز ان تدير حياتك؟، فالخطوة الاولى اذاً ان نبدأ في التسليم،، 

وهو أمر ليس بالسهل، فالتسليم هنا ليس فقط تسليم امور حياتك اليومية العادية لله، بل ايضاً فكرك ومعرفتك بالكامل!، لابد ان تكون على قناعة تامة بأن نظرتك للامور اقبل بكثير من ان تكون هي الحقيقة، فما تراه ظلاماً ربما يكون نوراً مستتراً، وما تراه شراً ربما يكون خيراً وهكذا،، 

قصة موسى عليه السلام والخضر، هي شاهد على ذلك، فموسى عليه السلام كان يمثل العقل الواعي، المنطقي، اما الخضر فكان يمثل الحكمة العليا، التي هي دائما مخالفة لما نتوقعه او نتخيله، فما كان يحسبه موسى شراً وجرماً، كان خيراً في كل الاحوال، وهذا هو الدرس، ان لا نثق كثيراً بنظرتنا للامور، وان نسلم بذلك!

ولا يمكن ان ندخل الملكوت الذي كان يبشر به المسيح ابداً، الا بتخطي هذا المستوى وهو ان نرى الاثنين واحدا ، والاعلى اسفل والاسفل اعلى ، والنور ظلام والظلام نور، هو ببساطة يعني ان لا نثق فيما نعرفه، بل نتخطاه، نتخطى عقلنا الواعي بالكامل، وان بدأنا بالتسليم، فحقاً لن نكون عارفين على وجه اليقين ما هو النور وما هو الظلام، وما هو الاعلى وما هو الاسفل وما هو الخير وما هو الشر،، وهذه هي البداية ،، 

لكن عبور هذا المستوى لا يعني الوصول والخلاص، فالعقل اللاواعي ايضاً محمل برواسب ولدها العقل الواعي، احباطات خيبات امل، مشاعر غضب وحزن كبتناها او تجاهلناها، كما انه باتصالاه مع اللاوعي الجماعي، فهو ايضاً يتلقى عنها، هو لم يصبح حراً بعد، بل ما زال مقيداً اخرى،، 

وهنا نحتاج لشيء اخر لنعبر الى مستوياتٍ اخرى، وهو التأمل، ومراقبة النفس، ليس التأمل الذي اقصده هو ان تجلس بصورة معينة وتشعل البخور، وتتنفس بطريقة ما ونحو ذلك، بل هو ببساطة ملاحظة النفس ومراقبتها، مراقبة ما يدور داخلك بينما انت تعيش حياتك، فإن برز الغضب، فهو فرصة لتفهم ما هو هذا الغضب ولماذا ظهر، ليس بطريقة العقل الواعي، بل فقط الملاحظة كفيلة ان تجعلك منتبهاً، وانتباهك لشيء ما ببساطة يعني تجاوزه بالكلية، ان فهمت السبب الحقيقي للمشكلة حقاً، ستختفي تماماً، كذلك الفرح، الحزن، كل شيء لابد ان نتعامل معه على انه فرصة لنعرف النفس، لذلك قيل "من عرف نفسه عرف ربه" وقال المسيح في مطلع هذا الانجيل "فإنكم ان تعرفوا انفسكم ستعرفون وتفهمون انكم انتم ابناء الآب الحي"،، ومعرفة النفس في ذاتها ليست هي معرفة الله بل بدون معرفة النفس لن نستطيع ابدا ان نعبر لما ورائها، حيث ملكوت السماوات وما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب البشر. 

لذلك فالحكيم يرى كل شيء كفرصة يتعلم منها شيء، لا تعلما تراكمياً، بل تعلما بالوعي والانتباه، الوعي في حد ذاته كفيلاً بتحويل اي شيء، لذلك الكثير من الحكماء قاموا بتشبيه الوعي بالنور، لأن وجوده ببساطة يبدد الظلمة، وما الظلمة في انفسنا الا مناطق لم يدخلها الوعي بعد،، 

عندما يصبح الوعي اعمق، ويصبح التأمل سائداً، حينئذٍ يبدأ الإنسان بملاحظة رواسب الفكر البشري وكيف تؤثر عليه وعلى دوافعه ونحو ذلك، حينئذٍ يتطلب الامر وعياً اكثر يقظة، وانتباهاً اكثر حدةً،،
وفي النهاية حين يصبح الانسان وعي محضاً، ويمتليء كيانه بالنور، حينئذٍ يكون متصلاً بالعقل العالي، او الوعي العالي، وهو مستوى الروح، حيث لا يوجد مرض ولا موت ولا فناء لشيء، حيث الملكوت الأعلى،، 

ولكن بالرغم من اننا حالياً لم نصل لتلك المرحلة من الوعي بحيث اصبح النور يملأ كياننا تماماً، الا اننا على اتصال بجميع مستويات العقل، لانها بداخلنا ، فنحن جميعاً في الملكوت، ونعرف كل شيء ، لكن تلك المعرفة الصافية قد غطت عليها العواصف الشديدة لمستويات الوعي الاخرى، فانت بإمكانك العبور للحظات والدخول في الملكوت، اذا بدأت بالتسليم، وهدأت عاصفة العقل الواعي قليلاً، يمكنك حينئذٍ ان تعبر وتشعر بومضات من عالم الروح والذي هو بداخلك واقرب اليك من حبل الوريد،،

وما الصلاة والعبادات الى محاولات لانتشالك من وسط وعيك الحالي الى مستويات الوعي الاعلى، وطرقاً لتدريبك على تهدئة عقلك والاعتماد على العقل العالي،، 

حين نكون داخل المستوى الاول من الوعي، فنحن نرى الذكر والانثى والاعلى والاسفل والنور والظلام، بل نرى فقط الثنائيات ولا نرى التكامل ،، 

فإن تجاوزنا ذلك المستوى، اصبحنا لا ندري ماهو الاعلى والاسفل والذكر والانثى،، 

ثم في الملكوت، لا نرى اعلى واسفل او خير او شر او ظلام او نور او ذكر او انثى، لأنه في الحقيقة لا يوجد اعلى او اسفل او خير او شر او نور او ظلام الا بالنسبة لعقلنا في مستوياته الاولى ،،

حينها نكون قد استبدلنا العينين "اي الازدواجية" بعين واحدة "اي بالأحدية" ، ونكون حينها قد تبدلنا تماما، فتبدلت اليد القديمة بيدٍ جديدة، والرجل القديمة برجلٍ جديدة، والصورة القديمة بالصورة الجديدة،،

فحين يتبدل الوعي ويتحول يتبدل الكيان كله، 

فأنت لم تعد جسدك المادي الظاهري كما كنت تحسب، فيدك الجديدة غير محدودة بما تراه، بل كل شيء تراه في اطارك لانه ليس ثمة انفصال بينك وبين اي شيء، ورجلك القديمة التي كانت تسعى في هذا العالم الفاني، اصبح لها دروباً جديدة، وصورتك التي حبست نفسك فيها، قد تبدلت واصبحت "لا صورة"، فالشكل الذي تراه في المرآة ليس شكلك انما هيئة جسمك فقط، لكن صورتك الحقيقة ليست ما تراه في المرآة بل ما تراه بداخلك..









السبت، 7 أبريل 2018

هكذا تكلم المسيح 5 - كيف نرى حقيقة المسيح؟

هكذا تكلم المسيح 5 - كيف نرى حقيقة المسيح؟



37. قال تلاميذه: متى تظهر لنا، ومتى نراك؟
قال يسوع: عندما تتعرَّون بدون أن تخجلوا وتخلعون ثيابكم وتضعونها تحت أرجلكم كالأطفال الصغار وتدوسونها، عندئذٍ ترون ابن الحيِّ ولن تخافوا.

سأل التلاميذ يسوع متى تظهر لنا ومتى نراك، بالرغم من انه يقف أمامهم مباشرة، لكنهم هنا لم يكونوا بالتأكيد يسألونه عن الرؤية العادية، بل كانوا يسألونه عن رؤية حقيقته والتي هي ليست جسده، ولا تنتمي الى عالم الأجساد والأشكال، فهم يقفون أمامه بالفعل لكنهم ربما يعجزون عن رؤية حقيقته الروحانية، حينئذ اجاب يسوع بما يرفع عن عيونهم ما يحجبهم عن رؤية نوره الأزلي وحقيقته السرمدية.

قال يسوع: عندما تتعرَّون بدون أن تخجلوا وتخلعون ثيابكم وتضعونها تحت أرجلكم كالأطفال الصغار وتدوسونها، عندئذٍ ترون ابن الحيِّ ولن تخافوا.

لأن سؤال تلاميذه لم يكن يتحدث عن هيئة مادية بل حقيقة روحانية، كذلك كان جواب المسيح بالتأكيد فهو يتحدث عن ثياب ليست بالثياب المادية، وهي بشكل ما تعيق التلاميذ عن عرفان حقيقة المسيح.

يطلب المسيح منهم هنا أن يتعروا عن كل الأثواب دون خجل، فما هي ياترى تلك الأثواب؟

الأثواب هي كل ما يقف حائل بيننا وبين الحقيقة، هي كل تعريف نضعه لأنفسنا، كالأسم واللقب والإنتماء وغير ذلك، ثم هي صورتنا وصورة العالم، اي تصورنا ان الحقيقة هي ما نراه، ثم هي كل ما يتصوره ويتخيله عقلنا ويظن انه الحقيقة.

بالأمكان ان نقسم تلك الأثواب الى ثلاثة، كل واحد منها هو حجاب يحول بيننا وبين الحقيقة:

- الثوب الأول: هو عالم الاسماء والصفات: ويشمل كل اسم نطلقه على أنفسنا، ثم كل المسميات التي نطلقها على جميع الأشياء.

- الثوب الثاني: عالم الشكل والصور: وهو كل ما تراه اعيننا، وتصورنا ان الحقيقة هي ما نراه.

- الثوب الثالث: كل ما نتخيله، اي كل ما يمكن ان يتصوره العقل ويحيط به.

يطلب يسوع من التلاميذ ان يخلعوا كل هذه الثياب دون خجل او تردد، ويدوسونها بأقدامهم دون الشعور بالمرارة، يقول: تضعونها تحت اقدامكم كالأطفال، ليشير ان الأطفال عرايا لا يبالون بكل تلك الثياب، لذلك اشار يسوع في اكثر من موضع بأن الأطفال فقط من يدخلون الملكوت، وأنه اعطى الأطفال ما حرم منه أهل العلم والمعرفة.

فقط حين نخلع تلك الثياب جميعا، سنتمكن من معرفة الحقيقة، حقيقة أنفسنا وحقيقة كل نفس، وحينها فقط ان مر أمامنا شخص مثل يسوع، فلسوف نتمكن من رؤية نوره الذي هو اصل كل الأنوار، وحقيقته التي هي منبع كل الحقائق.

ثم يختم يسوع قوله ويقول: حينئذ تبصرون ابن الحي ولن تخافوا.

فقط حين التجرد عن كل الاسماء والصفات والصور والخيالات سنتمكن من معرفة حقيقة المسيح ورؤية نوره المستور خلف حجاب الجسد والإسم والصورة.

يجب ان نعرف أنه بإمكان شخص مثل يسوع أن يخرق كل الحجبات ويظهر حقيقته حتى قبل أن نصبح مهيئين لذلك، لكن مداركنا طالما كانت محدودة فلن نحتمل أبدا، لذلك قال: ستبصرون ابن الحي ولن تخافوا، فقط بعد النظر بعين مجردة من كل الحدود يمكن ان نرى "ابن الحي" ولن نخاف.


الأربعاء، 18 أكتوبر 2017

هكذا تكلم المسيح - 4 - اذا كان المرء تاماً

هكذا تكلم المسيح - إذا كان المرء تاماً







يقول يسوع:


لهذا السبب أقول: إذا كان المرء <تاماً>، يكون ممتلئاً نوراً، ولكنْ إذا كان منقسماً، يكون ممتلئاً ظلمة.


كم شخصية لديك؟ هل ترى نفسك واحداً كاملاً حقاً؟ الست ترى ان لكل واحد منا في كل مكان وجه مختلف وحال مغاير، الا ترى ان حتى في اللحظة التي تبقى فيها مع نفسك تبرز أمامك اختلافات شتى وانقسامات عديدة، ما أن تلبث فكرة في ان تطفو على سطح العقل الا وتظهر فكرة اخرى غيرها وربما تعارضها، يا ترى من انت؟ هل انت ذاك الذي في المنزل مع العائلة؟ ام من تكونه مع اصدقائك؟، هل انت هذه الفكرة ام تلك؟ 

ان الداء الأكثر شيوعاً لدينا هو هذا الانقسام، انقسام للعديد من الشخصيات، كلنا مصابون بهذا الداء، كلنا لدينا مئات الاصوات في رؤوسنا، لا ندري حقاً الى من نستمع، او اي صوت في تلك الاصوات هو نحن؟؟ 

لكن يسوع هنا يتحدث عن الانسان التام، الممتليء بالنور، ويشير الى عاقبة الانقسام، الا وهو الامتلاء بالظلمة، فكيف يا ترى نتخلص من ظلمة الانقسام، الى نور الوحدة والتمام؟


يجب اولاً أن نفهم لماذا يحدث الانقسام؟


هناك سببان للانقسام يرتبط بعضهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً


السبب الاول: هو غياب سلطنة الفرد على عقله، فالعقل دائماً يشرد، وسيل الافكار لا يتوقف ابداً، فكيف يمكن ان يكون الإنسان تاماً ان انجرف مع كل فكرة تأتي في رأسه؟، الأفكار احياناً تكون الأفكار لصوصا، كل فكرة تسرق الانتباه، ملايين الافكار تأتي يومياً، وكل فكرة تسرق من اهتمامك، وما الاهتمام الا طاقة الحياة نفسها، فنحن بتوجيه انتباهنا الى شيء ما نبدأ بتغذيته، فالشيء ان لم تعرفه اهتماماً يموت، والافكار تتغذى على الاهتمام، وكل فكرة تظهر تحاول ان تخطف انتباهك واهتمامك، حينما يشرد ذهنك تماماً وتبقى تابعاً لكل ما يدور في ذهنك من افكار، ستستنفذ طاقتك تماماً، تدريجياً ستفقد القدرة على التواجد في الحياة التي تحدث حولك في كل لحظة لأنك اعتدت ان تعطي كل اهتمامك لما يدور في ذهنك من افكار في كل الوقت، فمتى اذاً ستنتبه وتقوى على ان تعيش في الحياة الحقيقية التي تحدث من حولك؟

حينما تشرد مع كل فكرة تظهر في ذهنك، يبدأ من هنا الانقسام،

لكن الخبر السار انه يمكنك ان تعتاد ان توجه انتباهك للواقع كما اعتدت ان توجه انتباهك للأفكار، والأمر ليس معقداً كثيراً، بإمكانك التدرب على ذلك، فقط ذكر نفسك في حسب انك انت لست هذه الافكار، ولا الصوت الذي تسمعه في رأسك، وان توجه انتباهك للحظة والمكان الذي انت فيه بإرادتك.

مع مرور الوقت، ربما يأخذ الامر وقت كثير مع البعض، او وقت قليل مع آخرين، لكن في كل الاحوال ستجد نفسك قادراً على الانتباه وعدم الانجراف وراء كل فكرة تلمع في ذهنك، وستتمكن من استخدام عقلك بإرادتك الحرة، ولن تكون شارداً تماماً مع كل فكرة تلمع في ذهنك، فقط تذكر ان الأفكار تسلب طاقتك تماماً، كن مراقباً لحركة الافكار في ذهنك دون ان تنجرف مع اي منها، ثم ركز انتباهك على الحاضر، ولا تشعر بالتأنيب ان وجدت نفسك تشرد كثيراً مع الافكار، فالتأنيب ليس الا فكرة اخرى تريد ان تسلب اهتمامك، بل كل ما عليك فعله حينما تلاحظ انك كنت شارداً هو ان تعود الى انتباهك وتتابع يومك بكل سلاسة.

أما السبب الثاني للإنقسام:، هو وجود معتقدات راسخة في اللاوعي تخلق الانقسام في كل الاحيان، مثلا فكرة ان على الانسان ان يبدو جيداً امام الآخرين حتى يحظى بالاحترام وينال مكانة اجتماعية جيدة وسط اقرانه، هذه الفكرة مثلاً احد الافكار الانقسامية، فأنت ربما في الحقيقة لست جيداً، لست كما يظن الآخرون، او لست كما يريدون ويتوقعون، لكنك مضطر ان تظهر لهم بأنك جيد حسب ما يظنون، حتى وان لم تكن كذلك، فتكون مع العائلة والجيران شخص، وتكون مع الأصدقاء شخص، وتكون مع نفسك شخص آخر، مادمت تحمل في عقلك فكرة انه يجب ان تبدو بصورة معينة امام الآخرين فحتماً ستكون منقسماً.

فكرة اخرى مثلاً، هي فكرة الإله الذي سوف يظل ساخطاً عليك مادمت لا تعمل وصاياه، فحين تفعل ما يخالف تلك الوصايا، فسيظهر شخص آخر يؤنبك على ما فعلته، فتجد نفسك وقد اصبح لديك شخصيتين، شخص يفعل وشخص يؤنب، وتظل في صراع وتقلب بين هذين الشخصين!، هل تظن مثلاً انك بهذه الطريقة ستترقى روحانياً بأي شكل؟ ام ان للترقي الروحاني سبيلاً آخر؟

يقول يسوع ان كل ما يخلق الانقسام بداخلنا يؤدي الى الظلمة، 

الظلمة ليست الا غياب النور، 
لذلك علينا ان نوقد النور بداخلنا،
والسبيل لذلك هو ان نتجه نحو التمام - الاتساق مع الذات -  او الوحدة.

الاتساق مع الذات يتحقق حينما يكون الدافع وراء كل ما تفعله واحداً، وان تكون واعياً بذلك، 

وحين تختفي كل الافكار التي تخلق انقساماً داخل النفس، وهذا غير ممكن الا اذا تقبلت نفسك تماماً، تقبلت حالك كما انت، اقتل هذا الثرثار الذي يظهر في رأسك ويخلق انقساماً بداخلك، قبول نفسك تماماً هو بداية التمام ونهاية الانقسام، وحين تكون تاماً فقط يمكن ان تترقى على سلم الروح، فلو كنت منقسماً لعدة اشخاص فمن سيترقى ومن سيهبط ومن سيصعد ومن سينزل، هذه هي العقبة الأكبر امام تطورنا الروحي، حين يصبح المرأ تاماً غير منقسماً، يبدأ رحلته من حيث هو، حتى ان كان الانسان بعيداً جداً، فسيبدأ تطوره من هذه النقطة، اما ان ظل منقسماً فلن يتحرك ابداً.

حين ينتهي الانقسام ويتجلى التكامل، هل تظن ان الامراض الاجتماعية التي نشكوا منها دائماً سيبقى لها وجوداً؟ هل سترى النفاق والتملق؟! هل سترى انسان يتغنى بالقيم السامية العليا ثم يفعل عكس ما يدعو اليه؟!

يقول يسوع ان المرء التام ممتليء بالنور، 

وببزوغ النور تتلاشى الظلمة تماماً، بظهور الحقيقة تنعدم كل الأوهام،،

انسان تاماً يكون ممتلئاً بالنور، مجتمع تاماً يكون ممتلئاً بالنور أيضاً،، 

فليس هناك مصدر للظلام الا الانقسام، 

فكيف نحلم بعالم متحد يعيش في سلام، بينما بداخل كل امريء منا انقسام وفرقة وحرب؟؟

خلاصة القول:

الانقسام يبدأ بشرودنا وراء كل فكرة تظهر في أذهاننا، ويمكننا تجاوز ذلك بالممارسة والمحاولة والتأمل، والاتساق والتمام غير ممكن مع وجود معتقدات تغذي الانقسام، لذلك فعلينا ان نعيد النظر في كل مايخلق الانقسام في انفسنا.